لم يهوَ نِظامُ
الإخوانِ أويَسقطُ حُكْمُ مبارك إلا
بالتظاهرات والاحتجاجات التي جَابَت البلادَ مِنْ شَرقِها لغَربِها مُطالبةً بالحُريةِ
والعَدالةِ الاجتماعيةِ، ولم يَكُن كلاهما ليستسلم لرغبات الشعبِ إلا بعد فَشْلِ
كل الحُلُولِ الأَمنيةِ القَمعية العَقيمة التي لم تَدُل وقتها إلا على وهنِ
الدولة وضعفِها وانعدامِ قُدرتها على مُراعاةِ الحقوقِ والحُريات وإخفاقها في تحقيقِ
العدالةِالاجتماعية ومُواجهةِ المَشاكلِ التي تَمُر بها البلاد، والآن إذ تَحبسُ مِصرَ
الثورةِ أنفاسَها في انتظار دَولة العَدلِ والقَانونِ المَنشودةِ، يُفاجئنا الرئيسَ
عدلي منصور الذي لم يَكُن لَهُ أَنْ يَجلسُ على الكُرسي الرِئاسي لولا التظاهرات
التي أَطَاحت بحكمِ الإخوانِ -وأَيَّدَها وسَانَدَها الجَيشُ- باعتمادِه قَانونِ
تنظيم التظاهر المُقَدَّم مِنْ رئاسة الوزراءِ الصَادرِ بالقَرارِ رقم ١٠٧ لسنة ٢٠١٣
الذي يتكون مِنْ خَمسةِ وعشرين مَادة مقسَّمةً على أَربعةِ فصول والذي بَدَأَ
تطبيقه بالفعل ابتداءً مِنْ يومِ الاثنين المَاضي المُوافِق٢٥ نوفمبر، وهو القَانونُ
الذي أَقل مَا يُقالُ عنه هو أَنَّه سُبةُ على جَبينِ ثورة يناير وارتدادُ على مَطَالبِها
واستهداف لثُوارِها ومُحاولة لسَلبِهم حق أصيل لَهُمْ وإعادة استنساخ للنِظامِ القَديمِ
الذي يَعتمدُ القوةَ وسيلة والبَطشَ أداة لاستمرارِه.
لم تَخْرجَ
مظاهرات في أي بَلدِ في العَالمِ أبدًا دُوْنَ سَببِ واضحِ، كَمَالاتَخلو مَعظمُ
البلادِ مِنْ قَانونِ لتَنظيمِ التظاهر، ولَكِنَّ لم يُحدد أيًا مِنْ تلك القَوانينِ
مَوعد ومَكان التظاهرات ولا يَستطيعُ الأَمنُ اسِتنادًا إلى ذَلك القَانونِ أو أي
تَشريعِ آخر أَنْ يمنعُ المظاهرةَ أو ينقلُها أو يُؤجِلُها، أَمًّا هَذا القَانون
الجديد الذي يَنُصُ محتواه على شُروطِ يَرقَى وَصفُها إلى قيودِ فيُعطي حقوقًا وصَلاحِيات
غَيرَ محدودة لمسئولي الأَمنِ تَسمحُ لَهُمْ بممارسةِ القَمعِ الذي قد يَصِلُ إلى استخدام
القُوةِ المُميتة، ومِثلَ تلك القَوانينِ الجائرة لا تُنَاسِبُ دولة كمِصرَ تسعى
إلى الديمقراطيةِ وتحقيق العدل، فمُجْمَل هذا القَانون يعني إلغاءَ الحقِ في التَظاهرِ
أو التعبيرِ السِلمي عن الرَأي، فيَتحولُ بذلك مِنْ أداةِ خروجِ مِنْ دائرةِ الفَوضَى
إلى أسلوبِ جديدِ للقَمعِ وتَكميمِ الأفواه.
فعَلى سَبيلِ
المِثالِ نَجِدُ أَنَّ المَادة العَاشرة تَمنحُ الأَمنُ الحَقَّ في أَنْ يَلغي مَكان
أو مَوعد التظاهرة أويؤجلها أو ينقلها إذا تَوافرت مَعْلومات لَدَى أَجهزة الأَمنِ
تُفيدُ بوجودِ خطر على الأَمنِ العَام. وبهذا تُوفِرُ هُذه المَادة صَلاحِية مُنقطعة
النظير للأجهزة الأمنية وهي إمكانية إلغاء أَيَّة مظاهرة، وهو نَصُّ لايُوجدُ في قَوانينَ
الدُولِ الديمقراطية.
ولا نَستطيعُ
أيضًا أَنْ نَتجاهل المَادة الحَادية عشر مِنْ نَفسِ الفَصلِ والتي تتعلق بحقِ
المسئولين في فَضِّ المظاهرة إذا خرجت عن السِلمية، حيث يَطلب القائدُ الميداني مَنْ
يَرَاه مِنْ المحكمة لإثباتِ عدم السِلمية، وهَذه المَادة سيُثَارُ حَولها لَغطٍ
وستَكثُر حولها الأقاويل مِنْ مُنطلقِ هل خَرَجَت المظاهرة عن السِلميةِ أّمْ لا، وسَيُستَغلُ
أي لغطٍ في تلك الضَوابِطِ طِبقًا للأَوضَاعِ الحَاليَّة والحَالة المتردية لجِهازِ
الشرطة كذَريعةٍ لاستخدامِ العُنف ضِدَّ المتظاهرين، كما أَجَازت المَادة الثانية
عشر اسِتخْدام المِياه والغَازات والهِرَّوات لتَفريقِ المتظاهرين، ثُمَّ تأتي المَادة
الثَالثة عشر أَكثرُ عُنفًا وتَشددًا وقَمعًا لتَنص على أّنَّه في حالةِ عَدم الجَدوى
يُطِلقُ الأمنُ طلقات تحذيرية ثُمَّ طلقات خرطوش مَطَّاطي وغير مَطَّاطي، أيُعقلُ
أَنْ يَنُص أي قَانونِ يُراعي الحَد الأَدْنى مِنْ الإنسانية على أَنْ تُفَض
تظاهرة بتلك القوةِ القاتلةِ؟ أي قَانونَ هذا الذي يَسمحُ بقتلِ متظاهرين سِلميين
يَرغبون في التعبيرِ عن آرائهم.
أَمَّا المَادةُ
الثامنة عشر فتأتي مُثيرة للسخريةِ حيث تَنُص على عُقوبةِ تصل إلى السجنِ ومائتي
ألف جنيه غَرامة لمَنْ يَحصلُ على أَموالِ مقابل تواجده في المَسيرةِ أو المَوكبِ
وكأن للمُبجلِ"توفيق عكاشة" يد في تلك المَادة.
وجَاءت المَادةُ
التاسعة عشر لتُحدد عُقوبةَ المخالفين للحَظرِ المنصوصِ عليه في هَذا القَانون والتي
تَصِلُ إلى مائتي ألف جنيه غَرامة وحبس يَصِلُ إلى خمسِ سنوات.
خَمسةُ وعشرونُ
مَادة مُكبلة للحُريات لمَنْ يُريدُ التظاهرَ أو الاعتراضَ على شيء، أربعةُ فصول تُجِيز
استخدامَ العُنفِ القَاتل وطَلقات الخرطوشِ. ويَبدو أَنَّ القَائمين على الأمرِ تَنَاسوا
أَنَّ السَبب الرَئيسي لقيامِ الثورة هو بَطشُ أُجهزةِ الأمنِ وتَكبيلِ الحُريات.
وبِمُقارنةِ هَذا
القانونِ بقَوَانينِ الدُولِ الديمقراطية في العَالمِ نَجِدُ قَانونَنا ونَظْرَتَنا
إلى المَشاكلِ مُثيرة للشَفقةِ فحتى أكثرُ الدُولَ تشددًا في قَوانينِها لا يَحِقُ
لها القَتْلَ في نَصِّ القَانونِ كماهو الحَال في القَانون المِصريِّ، ففي
بريطانيا على سَبيلِ المِثالِ التي تُعْرَفُ بقَوانينِها المُتشددة والمُعقدة يُقَدَّمُ
فَقَطْ إخطارُ بمَوعدِ المظاهرة ومكانِ انطلاقها ومسارِها، ويُمكن في حَالةِ حُدوث
خطر على الأمنِ أَنْ يَستدعي الضَابطُ المسئولُ مُنظمي التَظاهرةِ ويَشرحُ لَهُمْ
خُطورةُ المَوقفِ ويُلِزمهم بتغييرِ مَسارِ التظاهرة فَقَطْ، وفي حَالةِ مُخَالفة أي
شَرط مِنْ تلك الشروطِ يُعَاقبُ المُنظمون بالغَرامةِ، كما أَنَّ إجراءات إلغاءِ
التَظاهرة شديدة التَعقيدِ إلى الحَدِ الذي يَجعلُها مُستحيلة التطبيقِ، أما فرنسا
فلا يوجدُ فيها مِنْ الأَساسِ قانونُ لتَنظيمِ التظاهر ولَكِنَّ مَنْ يَقومُ
بأعمالِ تخريبٍ أو يَخرجُ عن السِلمية أثناء التعبير عن الرأي تَكونُ أقصى عقوبة
له الحبس سنة وغرامة معقولة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يَحظرُ التعديلُ
الأولُ على دستورِها على الكونجرس إصدار أي قانون يُعرقل حرية التجمع السِلمي
وتقديم الالتماسات للحكومةِ لتَصحيحٍ المظالمِ، بَيْدَ أَنَّ القَانونَ المُنَظِم
للتظاهرِ يَنُصُ على تُقْديمِ إخْطَار بمَوْعدِ ومِكِانِ وعَنَاوين مُنَظمي
التظاهرة حتى يَتَسَنَّى للأَمنِ تَوْفِير الحِمَايةِ لَهُمْ ، ونَمرُ على روسيا
فنَجِدُ أَنَّ المادة ٣١ مِنْ الدستورِ الروسي الذي أُقِّرَ عام ١٩٩٣ تَنصُ على حقِ
مواطني الدَولة في التجمعِ سِلميًا دُونَ حَمْل أَسلحةِ وعقد الاجتماعات والتظاهرات
والمسيرات وغيرها مِنْ أَشكالِ التجمع السِلمي للتعبير عن الرَأي، لَكِنَّ القانون
يُنظمُ المظاهرات والتجمع فيُلِزم مُنظمي أَيَّة مظاهرة أو تجمع بإخطارِ السلطات
كتابيًا قَبْلَها بعِدةِ أَيام لَكِنَّ السلطات لا تَملكُ الحقَ في رَفضِ المظاهرة
أو تغيير مكانها إلا إذا كَانَ هناك خطرًا يُهددُ سلامة المشاركين فيها أو إذا
كانت ستُقَام قُربَ مُنشآت خطيرة مِثل السِكك الحَديدية والمُفَاعِلات النووية
ومحطات الضغط العالي وغيرها مِنْ الأَماكنِ التي قد يُشَّكِّلُ التَواجد بجوارِها
خَطرًا يُهددُ المتظاهرين، وإنْ حَدَثَ وخَالف المُنظمون القَانونَ يُعَاقبون بالغَرامةِ
فَقَطْ.
بهذه المقارنةُ
البسيطةُ نَضَعُ الأمُورَ في نِصابِهَا الطبيعي ونَعِي جيدًا أَنَّ ذلك القانونُ
المصريُّ فريد مِنْ نوعِه في العَالمِ مِنْ حَيْثُ امتلائه بالعوارِ وانتهاكه للحقوقِ
الإنسانيةِ وتكريسه لمبدأ العنفِ والحُلُولِ الأمنية رَغْمَ أَنَّ تلك الحلول
أثبتت فشلها مُنذ البداية. ثلاثة أعوام ومِصرَتنتقلُ مِنْ سيء إلى أَسوأ، فلا فكر
ولا حُلُول سِوَى الحلول الأمنية القَمعية التي لا تُسمن ولا تُغني مِنْ جوعٍ، وفي
النهاية سَوْفَ يَسقطُ ذلك القانون وكل القوانينِ التي تدعم الظلمَ والقمعَ وتنحازُ
للسلطةِ الحاكمةِ على حسابِ الشعب، سَوْفَ يَسقطُ كل مَنْ يستهين أو يُهين ذلك
الشعب العظيم فلا شيء يَقفُ في وجهِ الحق أبدًا مَهْمَا كانت قُوته وأَسْلِحتُه، ولن
يبدل البطشُ رأياً أو يُغير السجن أفكارًا ولن يقتل الخرطوشُ مطلبًا، هُمْ يُحاوِلُونَ
ولَكِنّ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْجَحَ أَحَدُ في إيقافِ مُطَالَبَةُ المِصريينَ بحقوقِهُمْ
المَشروعةِ.