بقلم: أحمد الشوبكي
الآن ونحن نعيش أجواء الذكرى الثانية لأحداث محمد
محمود، تعودُ بنا الذاكرة سريعًا إلى ما قبل عامين حيث ملأ دخان قنابل الغاز
الأجواء وأخفى الجزء الأكبر من ميدانِ التحرير وخَيَّم الاضطرابُ على المكانِ بَعْدَ
سقوطِ عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، نعودُ حيث دَوَّت طلقات الخرطوش في جميع
الأرجاء لتحصد الأرواح، واختلطت في المقابل هتافات الثوار بآلامهم وآمالهم، تلك
الأيام التي جَسَّدَ فيها أبطال محمد محمود معنى جديدًا للصمود وسطروا بدمائهم قصةَ
نضالٍ حقيقيةٍ. الآن وبعد مرور عامين على الأحداث تأتي الذكرى هذا العام حاملةً
معها طابعًا هزليًا يلقي بظِلالِه على الجميعِ، ففي ذكرى خيانة الإخوان تعلن
الجماعة مشاركتَها، وفي ذكرى بطشِ وإجرامِ الشرطة تُعلن على لسانِ وزير داخليتها
"أن دماءَ شهداءِ محمد محمود سَالت لتروي شجرةَ النضالِ"، هكذا اجتمع
ثلاثتهم في الذكرى نفسها؛ فقرر أن يحتفل القاتل بجريمته، والخائن بخسته، أما
الأبطال الحقيقيون فقد أعلنوا أن الثورة مازالت مستمرة.
بداية
الأحداث
القاتل
وفي صباحِ يوم السبت ١٩ نوفمبر ٢٠١١، فاجأت قوات
الشرطة المعتصمين بوابلٍ من قنابلِ الغاز وطلقات الخرطوش دُونَ إنذارٍ، فكان نِتاجُ
الهجومِ مريعًا: أصيب العشرات جَرَّاء إطلاق النار العشوائي عليهم،واستُهدِفَ الصحفيون
والمصورون، فكانت حصيلةُ اليوم الأول إصابة عشرة صحفيين إصابات مباشرة في الوجهِ والصدرِ،
واستمرت مواجهات اليوم الأول حوالي ثمانية عشر ساعة حتى تمكنت الشرطة من السيطرة
على الميدانِ، ولكن لم يكن للوضع أن يستقر، فقد سَقَطَ أولَ شهيدٍ واشتعلت
المواجهات.
في اليوم التالي، تصاعدت وتيرة المواجهات وازدادت
حدة الشرطة وشراستها، وبدأت تستخدم أنواعًا غريبةً من الغازات تُصيبُ المتظاهرين
بتشنجات عصبية حتى لم يجد المتظاهرين إلا أن يواجهوا الموتَ بالهتاف الساخر
"الشعب يريد الغاز القديم"، واستمرت الشرطة في إطلاق الخرطوش بغزارةٍ،
كما استعانت بقواتٍ إضافية من الشرطة العسكرية وقوات الصاعقة حيث أحرقوا كل الخيام
واعتقلوا المئات وأصابوا حوالي ألف وخمسمائة متظاهر حسب إحصائيات العيادات
الميدانية التي لم تسلمَ بدورها من أذى الشرطة، فقد هوجمت كل العيادات الميدانية
وتم اعتقال الأطباء والمصابين وجاءت صورة إلقاء الجثث في صندوق القمامة لتعكس مدى اضمحلال
العقلية الأمنية وتوحشها في مصر.
شهدت الأيام التالية مواجهات أكثر ضراوة ودموية،
فمرور كل يوم كان يَضِعُ أسماءً جديدةً في قائمة الشهداء والمصابين، فسَجَّلَ
القصر العيني في تلك الأيام أعلى معدلات إصابة في تاريخه.
وعلى الجانبِ الرسمي، توالت بيانات من وزارة
الداخلية تشكرُ ضباطَها على ضبطِ النفس، في حين جاءت بيانات المجلس العسكري أكثر
تعقلاً ورصانةً، فبعد ارتفاع عدد القتلى إلى ثلاثين قتيلاً، قَبِلَ المجلسُ العسكري
استقالة عصام شرف "رئيس الوزراء آنذاك"، وأَكَّد البيانُ على أن المجلس العسكري
لا يريد حُكمًا ولا يطمح في سلطةٍ، وأنه ملتزمٌ بنتائج استفتاء مارس ٢٠١١، ولكن
المواجهات لم تتوقف لحظةً واحدةً واستمر نزيفُ الدماءِ إلى يوم الخميس الذي سَبَقَ
مليونية "الفرصة الأخيرة"، ففي ذلك اليوم حَاولَ المجلسُ العسكري احتواءَ
الموقف وأصدرَ بيانًا آخر يعتذرُ فيه عن سقوط ضحايا، وانسحبت الشرطة من محيط
الميدان بعد معركة استمرت ستة أيام على التوالي دون توقف، وفصلت قوات الجيش بين
المتظاهرين وقوات الشرطة حيث أغلقت كل الطرق المؤدية إلى وزارة الداخلية بالأسلاك
الشائكة وبسور خرساني وذلك بعد ما وصلت أعداد القتلى إلى أربعين والمصابين إلى حوالي
أربعة آلاف بالإضافة إلى مئات المعتقلين والمفقودين.
الخائن
جاءت أحداثُ محمد محمود
كاشفةً لقوى وشخصيات وصفقات لم تخطر ببال أحد من الثوار أبدًا، فقد أَبدعَ الإخوان
المسلمون في تجسيد المعنى الحقيقي للخيانة، فكان موقفهم من بدايةِ الأحداث مقززًا ومثيرًا
للاشمئزازِ وصادمًا للقوى الثورية حيث تركوا الثوار وحدهم في الميدان يواجهون مصيرَهم
بإعلانِهم عدم المشاركة في مليونية المطلبِ الواحدِ، وليس هذا فحسب بل اختاروا
الجانبَ الآخر من المعركةِ، فعلا صوتُ النذالةِ وتجلَّى معنى الخيانة في هرولتِهم إلى
المكاسب السياسية، فرأينا مرشدهم محمد بديع يَصِفُ المتظاهرين وأهالي الشهداء
بالبلطجية والمخربين الذين يسعون لإفساد "عُرس الديمقراطية"، تلك
الديمقراطية التي اقتصرت في مفهومهم على انتخابات مجلس الشعب فحسب، واتضحت خيوطُ
الصفقة مع المجلس العسكري، وتأكدت خيانة الإخوان وبيعهم لكل المبادىء والقيم، وبَاتَ
مؤكدًا أن تلك الجماعة لا تعرف معنى الثورة ولا تعترف بمطالبها، فهي تسعى فقط إلى تحقيق
مكاسب سياسية ولو على حساب حياة بعض البشر، وجاءت الذكرى الأولى لمحمد محمود في
عهدِ حكم محمد مرسي الذي ينتمي لجماعة الإخوان التي وصفت المتظاهرين مجددًا
بالمأجورين ومدمني المخدرات، ناسين أو متناسين أنه لولا المتظاهرين ما وصلوا
للسلطة قَطْ. هؤلاء من يأتون ليتاجروا بالثورة والثوار لتحقيق مكاسب شخصية، كَشَفَهم
صمودُ الثوارِ وتقديمهم الغالي والنفيس دفاعًا عن مبدأهم، فبين الخائن والقاتل يَقِفُ
البطلُ شامخًا رافعًا رأسه ليروي قصة نضال وصمود. وعلى هامشِ الخيانة لا يفوتنا أن نذكر خيانة حازم أبو اسماعيل وموتوريه
الذي جَاءَ إلى التحرير وأعلنَ اعتصامَه ولم يلبث أن رَحَلَ بعد اتفاق مع أجهزةِ
الأمن.
البطل
كيف اعتدت الشرطة على أهالي
شهداء ٢٥ يناير بهذه الهمجية؟ ظَلَّ هذا السؤال المحرك الرئيسي للأحداث خلال حرب
الأيام الستة، فبينما انشغل المجلسُ العسكري بتزييف الواقع محاولاً تبرير موقف
الشرطة واحتواء الموقف، كان هناك معنى جديدًا للصمود تسطره دماء أبطال أظهروا
بسالة وجسارة لا توصفان، فبعد الهجوم الهمجي على أهالي الشهداء يوم السبت ١٩ نوفمبر
وسيطرة قوات الأمن على مجريات الأمور داخل ميدانِ التحرير وشارعِ محمد محمود، ظَنَّت
قوات الشرطة أن الأمرَ قد انتهى، ولكن تأتي الرياحُ بما لا تشتهيه السفنُ؛ ففي
صباحِ اليوم التالي بدأت مناوشات بين بعض المتظاهرين الذين ظَلَّوا صامدين منذ
الساعات الأولى من المعركة والقوات المرابطة فى التحرير، وفجأة دَوَّى في الأفقِ
صوت هتافات يعرفها الثوار جيدًا مثل "مش ناسيين التحرير يا ..." و"خافي
منا يا حكومة"، اهتزت الأرض من تحت أقدام أفراد الشرطة فهم أيضًا يعرفون تلك
الهتافات ... إنهم شباب الأولتراس خط الدفاع
الأول للثورة.
بعد وصول شباب الأولتراس انقلبت
موازين المواجهات رأسًا على عقب، فتقدم شباب الأولتراس صفوف المعركة وسط فرحة
عارمة من الثوار، ورَفَعَ وجودُهم الروحَ المعنوية للمتظاهرين وأضاءوا سماءَ
الميدان بالشماريخ ليلهبوا حماس الشباب، ولم يتوقفَ دَعْمُ الأولتراس للثوار طوال
فترة المعركة ولم تتوقفَ مسيراتهم الضخمة القادمة من كل صوب في اتجاه الميدان، تَغَيَّرت
مُعطيات الأمور وانسحبت قوات الشرطة من الميدانِ بالكامل ومن الشوارع المحيطة به،
فقد دافع شباب الأولتراس بكل ما أوتوا من قوة عن الثورة والميدان فتَرَسَّخَ موقفهم
البطولي في ذاكرة الثورة. لكنهم ليسوا وحدَهم مَنْ جَسَّدوا البطولةَ والإصرارَ،
فكان هناك سائقي الدراجات النارية الذين لعبوا دورًا محوريًا في الأحداثِ، فكانوا ينقلون
المصابين إلى العيادات الميدانية ويُجلون الشهداء من ميدان المعركة وسط طلقات
الخرطوش وقنابل الغاز، قاموا بدورِ المسعف حتى أسماهم الثوار آنذاك "الإسعاف الشعبي"
الذي جاء لينقذ أرواحَ المئاتِ ويُعلي قيمَ الإنسانية فوق أي اعتبار.
معاني جديدة أضافتها أحداث
محمد محمود فتُظهر حقيقة الخونة وتقض مضاجع القتلة وتُذّكِّر الشرفاء بالشهداء، تلك
المعاني التي حفرتها الأيادي الطاهرة بالدماء في ذاكرة تاريخ مصر، الآن وبعد عامين
من تلك الملحمة الثورية تأتي ذكرى هذا العام حاملةً في طيَّاتها مشهدًا أقلَ ما يُوصَفَ
به بأنه ساخر وهزلي؛ فالقاتلُ يتنصل من جريمته ويُشيِّد لضحاياه نُصبًا تذكاريًا،
والخائن يتبرأ من خيانته منتهزًا الفرصة كعادته لتحقيق مكسب سياسي لتصبح أحداث
محمد محمود مرةً أخرى مرآةً صادقةً تنعكسُ فيها خيانة الإخوان وبلاء جهاز الشرطة
وثبات أبطال حقيقيين لا يخشون الموت ولا يخافون سلطان، اليوم وبعد عامين يحاولون تشويه
الذكرى والمتاجرة بها ولكن سَبَقَ السيف العزل فلن تُمحى ذكريات كتبتها الدماء.